دارفور تستقبل وفد الجامعة العربية بالأغاني والأهازيج - عمرو موسي يتجول في القري الدارفورية ويغوص في الأتربة تضامنا مع السكان
السودان : محمـود بكـري }
سوف يسجل التاريخ للجامعة العربية ولأمينها العام 'عمرو موسي' شجاعة المبادرة بنقل اجتماع مجلس الجامعة إلي مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور.. وسيسجل التاريخ أيضا لسفير سوريا ومندوبها الدائم بالجامعة العربية 'يوسف أحمد' فضل السبق في التقدم بالاقتراح الذي تحول لحقيقة، وتجسد واقعا علي أرض دارفور بعد الزيارة المكثفة التي قام بها وفد الجامعة العربية إلي ولايات دارفور الثلاث يومي السبت والأحد الماضيين في رحلة مرهقة استمرت ثلاثًا وأربعين ساعة، غير أنها قطعت في سياقها مشوارا من التواصل قد..
يستغرق سنوات في فقه الدبلوماسية المرتكنة إلي حديث القاعات المغلقة فقط.. أحسنت الجامعة، وأحسن أمينها العام بهذا التحرك الذي كان رد فعله علي أهل دارفور بولاياتها الثلاث أكبر من أن تصفه الكلمات مهما اتسعت دائرة حروفها ومعانيها فالفعل الذي تجسد علي الأرض كشف حالة من الاشتياق كانت تنطق بها أعين الدارفوريين وهم يرون أشقاءهم العرب قد وفدوا ممثلين لكل بلدانهم، وهم يتجولون في قراهم.. يشاركونهم رقصاتهم..يشربون مياههم.. ويأكلون علي موائدهم العامرة بالكرم السوداني الأصيل.. ما أن صعدنا طائرة المغادرة الأردنية التي رافقتنا طيلة الرحلة.. وما أن استقرت الطائرة في الأجواء وهي تنطلق مباشرة من القاهرة إلي مطار الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور حتي رحت أسأل الأمين العام للجامعة العربية 'عمرو موسي' عن مغزي الزيارة في هذا التوقيت،والذي أوضح أن هذه الخطوة تتم بالتنسيق مع المجتمع الدولي في سياق تشاور لايتوقف حول جملة الأوضاع المتداعية في دارفور خاصة مع الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيجاد، واصفا انتقال الجامعة العربية للاجتماع للمرة الأولي في دارفور بالحدث المهم، موضحا أن تفقد قري ومعسكرات النازحين يتم في إطار إعادة الإعمار والجهد العربي الملموس في هذا الشأن والذي رفع بحسب التقارير الصادرة عن الأمم المتحدة نسبة المساهمة العربية في عمليات إعادة الإعمار من 10 بالمائة إلي 33 بالمائة في العام الماضي، فيما تشير التقديرات إلي بلوغه 50 بالمائة هذا العام.
وعن المغزي السياسي وراء الزيارة أكد 'موسي' لـ'الأسبوع' أنه إذا كان الاجتماع يتم تقديرا للوضع الدقيق في دارفور فهو أيضا علامة علي استقرار الأوضاع الأمنية التي سمحت لمجلس الجامعة بأن يجتمع ويتجول في الولايات الثلاث.. وهي في كل الأحوال - بحسب الأمين العام للجامعة العربية - رسالة ترد علي الذين يزعمون ان الجامعة العربية لم تفعل شيئا من اجل دارفور.
وبحسب السفير عبدالرحمن سر الختم سفير السودان ومندوبها الدائم لدي الجامعة العربية فإن زيارة وفد الجامعة إلي دارفور بمثابة رسالة إلي العالم بأن العرب يتوحدون خلف قضاياهم المصيرية، وهي رسالة أيضا لمن يتدخلون في الشأن العربي بأن العرب قادرون علي معالجة قضاياهم وازماتهم ومشكلاتهم، وهي رسالة للشعب السوداني بأن البلدان العربية تقف معه وان ذلك يجب أن يدفعهم جميعا للتعاون من أجل حل مشكلاتهم، أما الرسالة الأخيرة بحسب تصريحات السفير السوداني لـ'الأسبوع' فهي تعني أن ولايات دارفور أصبحت آمنة ومستقرة وعليها ان تلعب دورها في نهضة السودان ورفعته.
أربع ساعات ونصف الساعة استغرقتها رحلة الوصول إلي دارفور بالطائرة.. عند الواحدة إلا الربع ظهرا هبطنا في مطار 'الجنينة' عاصمة ولاية غرب دارفور.. لحظات وبدأنا النزول من الطائرة.. فاجأتنا حرارة الجو، والشمس الحارقة.. كان العشرات من المسئولين المدنيين والعسكريين في استقبالنا، يتقدمهم والي الولاية 'أبوالقاسم إمام الحاج'.. علي الفور انطلقنا إلي المنطقة المستهدفة وهي قرية 'هبيلا كناري' الواقعة قرب الحدود مع 'تشاد'.. نقلتنا أربع طائرات هليوكوبتر تابعة للأمم المتحدة حيث التحليق في تلك المناطق للطائرات التابعة للمنظمة الأممية.. و'هبيلا كناري' هي واحدة من 34 قرية في هذه المنطقة تضم عددا من السكان يقدرون بـ 14 ألف نسمة بدأوا رحلة العودة الطوعية إلي قراهم التي نزحوا منها منذ العام 2004،تجول وفد الجامعة العربية برئاسة 'عمرو موسي' في انحاء القرية التي اتخذت نموذجا للقري التي تم بناؤها بدعم الجامعة العربية.. ثلاثون منزلا شيدت بالقرية ومركز طبي ومدرسة ومسجد وغير ذلك من المنشآت،كما تم إمداد القرية بالمياه النقية.. كان الآلاف من الرجال والسيدات والأطفال يحتشدون، معبرين عن بهجتهم الطاغية للحدث الكبير.. وقفوا يؤدون الرقصات الشعبية ويرددون الأغاني والأهازيج.. ويدقون الدفوف.. النساء يطلقن الزغاريد فرحا.. أجواء من البهجة في هذه اللحظات راحت تجتاح كل من حضروا.
بعد تفقد القرية حضرنا احتفالا كبيرا ومؤتمرا ألقيت فيه الكلمات من السيد 'عمرو موسي' و'مني أركو مناوي' كبير مساعدي رئيس الجمهورية السودانية ورئيس السلطة الانتقالية في دارفور، وعدد آخر من الحاضرين قبل ان نعود مرة اخري للطائرات التابعة للأمم المتحدة والتي حملتنا إلي مطار 'الجنينة' الذي انطلقنا منه عند الثالثة والنصف ظهرا لنبلغ مطار 'نيالا' عاصمة ولاية جنوب دارفور في نحو الرابعة وعشر دقائق، حيث جري استقبال الوفد الزائر رسميا وشعبيا علي أرض المطار قبل ان تنقلنا باصات كبيرة إلي قرية 'موراي جنقي' الواقعة علي بعد 45 كيلو مترا من العاصمة 'نيالا'.. كان الطريق طويلا وغير ممهد بالشكل المناسب.. وكان السائق يسير بسرعة هائلة للحاق بالقرية قبل حلول الظلام، حتي انه كاد يعرض أرواحنا للخطر من شدة السرعة والمطبات التي قابلتنا في الطريق الوعر.. وعلي نفس المنوال رحنا نشارك في افتتاح المساكن والمدارس والمساجد والمركز الطبي ونعيش ذات الاجواء الاحتفالية والمؤتمر الخطابي للترحيب بالوفد القادم وما اعلنه 'عمرو موسي' عن حجم الأعمال التي تمت، إلا أن كبير مساعدي الرئيس السوداني 'مني أركو مناوي' راح يستأذن فجأة لارتباطات عاجلة لم يفصح عنها.. ثم مالبث ان عاد الوفد إلي'نيالا' حيث تناول العشاء في منزل الوالي قبل ان يتوجه لمطار 'نيالا' في نحو السابعة والنصف في رحلة العودة لليلة الأولي إلي الخرطوم.. كان توقع الجميع بلوغ الخرطوم هذه الليلة، لكن الاقدار جاءت بما لا تشتهي سفن الوفد الزائر.
بعد ساعة ونصف الساعة من الطيران بلغنا اجواء العاصمة السودانية "الخرطوم".. كان المقرر أن نمكث ليلتنا في العاصمة قبل أن نعود في اليوم التالي إلي 'الفاشر' عاصمة ولاية شمال دارفور.. وما ان اعلن قائد الطائرة ضرورة ربط الاحزمة استعدادا للهبوط بالخرطوم.. وما أن بدأت الطائرة تأخذ طريقها نحو الهبوط علي مدرج المطار حتي فوجئ الجميع بقائد الطائرة يعود مجددا لإبلاغ الركاب أن مشكلة حدثت في أنظمة الإضاءة بالمطار حالت دون الهبوط،وأنه سوف يتوجه للهبوط في أقرب المطارت المتاحة.. وكان مطار 'الأبيض' عاصمة ولاية شمال كردفان الواقعة علي بعد أربعمائة كيلو متر من الخرطوم هو الاقرب.. بلغنا المطار في التاسعة و45 دقيقة بتوقيت القاهرة.. لم تكن هناك أي استعدادات قد اتخذت بعد أن فوجئ الوالي وكبار المسئولين بهذا التطور المفاجئ.. ظللنا لأكثر من نصف الساعة في الطائرة ننتظر احضار سلم الهبوط منها.. جاءوا بسيارة واحدة لنقل السيد 'عمرو موسي' إلي صالة الانتظار.. غير أنه آثر أن يسير مع أعضاء الوفد بعد رفضه ركوب السيارة.. كان الجميع يشعرون بالإرهاق الشديد جراء الجهد المتواصل منذ مغادرة القاهرة في الصباح الباكر حتي تلك اللحظات.
كانت المهمة العاجلة هي في تدبير أماكن لإقامة أعضاء الوفد من كبار مسؤلين بالجامعة وسفراء ومندوبين وإعلاميين.. وقد لاحظ الجميع الاهتمام غير العادي الذي أبداه 'عمرو موسي' لحل مشكلة تسكين أعضاء الوفد، خاصة أن الولاية لم تكن قد استعدت لتلك الزيارة المفاجئة.. ولم يغادر 'موسي' صالة الانتظار إلا بعد أن اطمأن علي إقامة الجميع.. كانت مهمة المسئولين في الأبيض جسيمة.. فقد طولبوا فجأة بالسهر علي رعاية وتسكين مائة من الشخصيات الزائرة المهمة.. وكان المثير أن نجحوا في الاختبار بامتياز، وهو ما دعا 'موسي' في اليوم التالي لأن يوجه لهم الشكر علي الهواء خلال افتتاح الاجتماع بعد ان لمس مدي مابذلوه من جهد في هذا الشأن.
غادرت بصحبة عدد من الزملاء الإعلاميين إلي فندق 'كردفان' وهو فندق متواضع للغاية ويقع في مواجهة فرع مقر حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان.. لم يكن هناك بد من قضاء الليلة في المكان.. بضع ساعات كانت تفصلنا عن رحلة السفر إلي "الفاشر"أردنا استغلالها في قسط من الراحة والنوم، ولكن تطورا مفاجئا دهمنا أطاح بالنوم من عيوننا.. فبينما كانت عمليات تسكيننا تتم في فندق 'كردفان' جاءت أنباء من القاهرة تقول إن قناة 'دريم 2' اذاعت ان حادثا أصاب طائرة 'عمرو موسي' والوفد المرافق له خلال هبوطها اضطراريا بمطار الخرطوم.. وما ان انتشر الخبر حتي راحت الاتصالات الهاتفية تتواصل مابين 'مصر' و'الأبيض'.. كل يريد أن يطمئن أو يطمن أهله وذويه حول حقيقة ماجري بعد أن أثار الخبر غير الدقيق - قبل نفيه - قلقا واسعا بين الجميع.
كان الخبر علي هذا النحو كفيلا بإطاحة النوم من عيون المتعبين.. الذين خلدوا إلي غرفهم في وقت متأخر من الليل،حيث كانوا علي موعد للتحرك عند التاسعة والنصف من صباح اليوم التالي للسفر إلي دارفور.
في الصباح الباكر دق جرس الهاتف في غرف أعضاء الوفد لإيقاظهم من نومهم استعدادا للسفر.. وعند التاسعة كان الجميع في بهو الفندق ينتظرون لحظة الرحيل التي طالت أكثر مما يجب.. حيث تحركت الطائرة من مطار 'الأبيض' صوب 'الفاشر' في نحو الثانية عشرة ظهرا.. وبلغنا مطارها عند الواحدة إلا ربعا بتوقيت القاهرة، حيث استغرقت رحلة الطيران قرابة الـ45 دقيقة.. في المطار كان والي ولاية شمال دارفور العتيد 'عثمان يوسف كبر' يتقدم الوفد.. وبعد استراحة قصيرة بالمطار توجهنا إلي منزل الوالي الذي أزوره للمرة الرابعة علي مدار الأعوام الستة الماضية..كان المثير أن 'الفاشر' التي كانت في السابق تعاني آثار الحرب والدمار والمعارك قد تبدلت هذه المرة تماما، وتحولت في الكثير من أحيائها إلي مدينة عصرية تكتظ بالمباني والمؤسسات الخدمية المتطورة، فيما كسا الجمال الكثير من شوارعها التي كانت أرضا صحراوية قاحلة في الزيارات السابقة.
قبل التوجه إلي مكان انعقاد اجتماع مجلس الجامعة العربية علي مستوي المندوبين بعد ظهر الأحد الماضي أدي السيد عمرو موسي صلاة الظهر مع الحضور في مصلاة منزل الوالي.. بعدها توجه الجميع إلي القاعة الفسيحة التي أعدت داخل المنزل والتي رفعت فيها الأعلام العربية، حيث توسط السفير السوري منصة الحفل لترؤس الاجتماع وعن يمينه 'عمرو موسي' وعن يساره'مني أركو مناوي' وعدد من كبار المسئولين، فيما احتل السفراء ومندوبو الدول مواقعهم المخصصة لهم علي طاولة الاجتماع،بينما خصصت مقاعد خاصة للإعلاميين المشاركين.
تحدث السفير السوري 'يوسف أحمد' ليؤكد المغزي السياسي والتضامني للاجتماع، فيما ركز 'عمرو موسي' علي دور الجامعة العربية في تنمية وإنماء دارفور وإعادة إعمارها، بينما ذهب كبير مساعدي الرئيس السوداني إلي التأكيد علي الجدية المطلوبة في التعامل مع مشكلات أبناء دارفور وسبل حلها، فيما تناوب رؤساء الوفود العربية في الإعلان عن التضامن والدعم الكاملين لأبناء دارفور في محنتهم، معبرين عن امتنانهم من الحفاوة البالغة التي قوبلوا بها من أبناء الولايات الثلاث.. وكان 'إعلان الفاشر' الذي تلاه السفير السوري بمثابة تأكيد علي جملة المواقف التي جاء وفد الجامعة لإعلانها من فوق أرض الإقليم، وهو إعلان حظي بتأييد ومباركة جميع الدول المشاركة باستثناء السفير السعودي الذي طلب إضافة فقرة إلي البيان لحث الدول التي لم تف بالتزاماتها المالية لدعم أبناء دارفور لسرعة الوفاء بها.
بعد تناول الغذاء بمنزل والي الولاية انطلقنا إلي مطار"الفاشر"ومن هناك إلي الخرطوم التي وصلناها السادسة وعشر دقائق بتوقيت القاهرة بعد رحلة طيران استمرت زهاء الساعة.. وبعد انتظار لأكثر من ساعة ونصف الساعة توجهنا للقاء الرئيس السوداني عمر البشير بمقر إقامته علي مقربة من المطار، حيث كان الدكتور 'مصطفي عثمان إسماعيل' مستشار الرئيس السوداني علي رأس مستقبلينا، فيما أعلن الرئيس البشير لدي استقباله أعضاء الوفد عن بالغ تقديره للأمين العام وأعضاء الوفد علي دورهم في هذه المهمة النبيلة.
كان من المقرر أن يلتقي الرئيس السوداني بالإعلاميين المصريين ويعقد معهم مؤتمرا صحفيا، غير أن بعض معاونيه من العاملين في المراسم ارتكبوا تصرفا أقل ما يوصف به أنه في غير صالح الرئيس البشير.. لقد كانت هناك العشرات من وسائل الإعلام المختلفة ستنقل صوت الرئيس الذي يسعي الغرب إلي حصار تحركاته إلي العالم، غير ان بعض ضيِّقي الأفق في مؤسسة الرئاسة السودانية أفسدوا هذه الرسالة وألغوا في اللحظة الأخيرة لقاء كان قد تم الترتيب له قبل انطلاق الوفد من القاهرة في سياق جولته بالغة الأهمية والتي امتدت إلي أربع ولايات سودانية إضافة للعاصمة الخرطوم ،تخللتها سبع رحلات طيران، قطعوا خلالها آلاف الكيلومترات دعما وتضامنا مع أبناء دارفور في ولاياتها الثلاث.